السلام عليكم ورحمة الله
[[ المعلم هو ذلك الظالم في الفصل، المظلوم خارجه]] (القول لمحمد عابد الجابري: مفكر مغربي)
يبدأ كاتب الفصل اقتباسه السابق، ثم يقول: إذا كان المعلمون من أكثر الناس جهداً وإسهاما في بناء الحضارة، فإن رواتب المعلمين والقضاة، يجب أن تكون الأعلى في المجتمع، لأن الأول يبني العقل، والثاني يبني العدل، وكلاهما من ركائز المجتمع، بل وبصائره.
في رواية (السكرية) لنجيب محفوظ، يصرخ أحمد عبد الجواد وهو ينهر ابنه كمال الذي يود الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا بدلاً من مدرسة الحقوق قائلاً: ولكن الناس لا تقيم التماثيل لمعلم، أرني تمثالاً أقيم في بلادنا لمعلم. فيرد الولد بأنه في بلاد العالم المتقدم يقيمون مثل تلك التماثيل.
ويستمر الباحث في سرد الصور التي لا تعطي المعلم حقه، فيشير الى أن التلفزيونات تجري مقابلات مع فنانين وأطباء ولاعبي كرة قدم، ولكنها لا تجري مثل تلك اللقاءات مع معلمين. ثم يعرج الى نظرة المجتمع التي تنتقص دور المعلم، حيث يعاني في اختيار زوجته ويعاني من صورته المهزوزة المرتبطة بالدروس الخصوصية، كما يعاني من أعمال فنية أفلام ومسرحيات تتناول المعلم باستهزاء مثل (مدرسة المشاغبين) الخ.
ويتطرق الباحث من خلال الانتقال الى خارج نطاق الوطن العربي، الى حالات متشابهة في العزوف عن امتهان مهنة التعليم. فيذكر أن أشهر تقرير أمريكي صدر عن (مجموعة هولمز) التي تشكلت عام 1983، يذكر أن الطلاب لم يعودوا يُقْبلون على دراسة التربية ليصبحوا بعدها معلمين.
معلمون محبطون ... معلمون منهكون
هل سمعت عن (بول ماكميلان)؟
الرجل كان معلماً في مدرسة بريطانية كبرى وبراتب سنوي قدره 33 ألف جنيه، ترك مهنته كمعلم وأصبح سائق قطار براتب 10 آلاف جنيه إسترليني سنوياً، وذلك استجابة لنصيحة ابنته التي كانت تلاحظ عليه الإنهاك والتعب عند عودته من المدرسة، فقالت له: أبي، أترك مهنة التدريس قبل أن تقتلك.
وفي اليابان، يمتد يوم المعلم الياباني من الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساءً، يليها اجتماعات خاصة بالأنشطة المدرسية بحيث يصل المعلم الى بيته في العاشرة مساءً. بالإضافة الى انشغاله في البيت في تحضير الدروس لليوم التالي والتي هي غالباً بين 3 و6 حصص في اليوم.
إنه الإنهاك النفسي للمعلم في جميع بلدان العالم، حيث ضغوط المهنة والتي تظهر بالأشكال التالية:
ـ التبلد وعدم الحماس لتعلم الجديد، والنفور من ممارسة التدريس.
ـ مقابلة اقتراحات التلاميذ وأفكارهم بروح عدائية.
ـ السعي نحو الكمال المهني، وعدم النظر بموضوعية الى واقعيته.
ـ ينتابه وسواس من أن عمله غير كافٍ وغير متقن.
ـ تفضيل العمل الكتابي عن التفاعل مع الطلبة، لأخذ شوط من الراحة.
ـ الندم على احترافه مهنة التدريس.
ـ افتقاد المتعة في عملية التدريس، وترقب العطلات باستمرار.
ـ تصاحبه مشاعر الإحباط الى المنزل.
الالتباس حول مكانة التعليم في مجتمعنا
على أن أخطر آفات العملية التعليمية هي ظاهرة الدروس الخصوصية التي نخرت كالسوس في البنية التعليمية، حيث حولت التعليم الحقيقي من المدرسة الى المنزل أو المركز الإضافي، فتخلت نسبة غير قليلة من المعلمين عن أداء رسالتهم ومسئوليتهم وأصبحوا يكيفون أوضاعهم مع الدروس الخصوصية.
قياس المكانة الاجتماعية للمعلم
تعرف المكانة الاجتماعية (Social Status) كمكافئ للوضع الاجتماعي للفرد، على أساس قيمة مهنته بالنسبة للمجتمع، ويعرفها معجم المصطلحات التربوية والنفسية بأنها (الوضع المهني للمعلم والدرجة التي يصل إليها المعلم في كفاءته المهنية واتجاهاته، واعتراف المجتمع مقارناً بأفراد المهن الأخرى).
في السبعينات ومن خلال عدة دراسات (زين العابدين درويش وعبد اللطيف محمد خليفة) وضع مقياس من 100 درجة، فكان أستاذ الجامعة يقع بالمستوى الأول مع الوزير ومستشار رئيس الجمهورية ووكيل الوزارة. وكان المدرس الجامعي في المستوى الثاني، وناظر المدرسة والمدرس الثانوي والموجه الابتدائي في الدرجة الثالثة ومعلم الإعدادية وناظر الابتدائية في المرحلة الرابعة.
في الثمانينات لم تتغير الترتيبات كثيرا، إلا تساوي ناظر المرحلة الابتدائية ومعلم الإعدادي مع ضابط الجيش أو الشرطة والمخرج المسرحي والطبيب البيطري والفنان التشكيلي. وتغير معلم الابتدائي ليتساوى مع التاجر ومصور التلفزيون والممثل المسرحي.
في التسعينات (الدرجة من 100) حاز أستاذ الجامعة على 94 ومدرس الجامعة على 87 وناظر الثانوية على 74 وموجه الابتدائي على 66 ومعلم الثانوية على 65 وناظر الابتدائية على 60 ومعلم الإعدادية على 59 ومعلم الابتدائية 53.
في عام 2005وضعت الدوائر الحكومية (معاهد التصنيف الرسمية) المعلم في المرتبة الخامسة بعد الطبيب والمهندس والصحفي والصيدلي. أما الجهات غير الرسمية (الأهالي) وضعوا المعلم في الدرجة الثامنة بعد: الطبيب ورجل الأعمال والمهندس والصيدلي والمحاسب والمحامي والصحفي. [ من أطروحة ماجستير للباحثة سامية أحمد فرغلي بقسم أصول التربية ـ عين شمس].
تنمية المكانة الاجتماعية للمعلم:
يحصل المعلم الياباني المخضرم، الذي يعمل في الريف والجبال على مرتب يعادل مُرتب رئيس الوزراء، وتقارب مرتبات المعلمين في ألمانيا الحد الأقصى لمرتبات موظفي الدولة، بالإضافة الى تمتعهم بمزايا أخرى مثل شرائهم المنازل بأسعار أقل عن بقية المواطنين. وفي كينيا يقف ممثل المعلمين مع رئيس الجمهورية وكبار رجال الدولة في استقبال رؤساء الدول الأخرى في المطار.
يحمل الكلام السابق، مضموناً يؤشر على ضرورة رعاية الدولة للمعلم، ومنحه لامتيازات تليق مع دور رسالته. ولكن هناك من يُحمل المعلم مسئولية قبوله بأوضاعه المتدنية في بعض البلدان.
يقول المفكر البرازيلي (باولو فريري): ليس هناك سبب في قيامي بوظيفة التدريس بشكل سيء، ولا يمكن احترام وقبول نظرة السلطات في نقص احترامها لدور المعلم. ونظراً لكوني إنساناً يمتهن التعليم فالمهنة عندي عملية روحية وموجهة وهي بالتالي سياسية.
ويضيف: من المهم أن يتمتع المعلم بصلابة فكرية مصدرها: قوة إعداده المهني في كليات التربية، وثقافته العامة المستندة الى فرضيات: إنه يجب أن يقرأ، ويتابع تطورات السياسة والاقتصاد، ويقرأ في التاريخ والأدب، ويرتاد معارض الفن التشكيلي، ويستمع الى الموسيقى، ويطور أحاسيسه وأفكاره، بل ويمارس الرياضية. يجب أن يتخلى معلمونا عن هشاشتهم الفكرية، وضحالتهم المعرفية خارج مجال تخصصهم، ليس الطالب فقط هو الذي يتعلم بل المعلم أيضاً. لا يقتصر دور المعلم على المتابعة والتكيف مع العالم فقط، بل يجب أن يتدخل في تشكيل هذا العالم، وإعادة تخليقه بسمو الأولياء والقديسين وروح الثوار وعقل المفكر ومشاعر الفنان.
رؤية تربط بين حقوق المعلم المهنية والمادية والمعنوية
1 ـ حقوق المعلم المهنية
يأتي ذلك من خلال تطوير مستوى إعداده وتأهيله وتنميته المهنية بعد التخرج وأثناء العمل، ورعاية النابغين من المعلمين، وتوافر البيئة المدرسية المناسبة وتحسينها.
2ـ حقوق المعلم المادية
بحيث يكون تمييز الأجور والمكافئات مرتبطاً بأدائه وكفاءته، مع إعطائه مقابلاً مادياً عند تكليفه بأعمال خارج وقت العمل الرسمي، يجب أن تميز درجات الاختلاف بين المعلمين في المعرفة، والمهارات، والنتائج، ومدى الالتزام بمهامهم.
كان قانون 1983 في إنجلترا قد كفل للمعلم الذي لم يرقَ لمنصب أعلى مكافأة 69% من بدء تعيينه الى تقاعده، في حين يُمنح من يرقى الى منصب أكبر 102% .
وترتبط الدعوة في إعداد المعلمين، وجعلهم معلمين ومربين الى الاهتمام بحقوقهم المادية وفتح المجال لهم في المشاركة في الحياة العامة من خلال تشكيل تنظيماتهم النقابية بحرية مطلقة.
3ـ حقوق المعلم المعنوية
تتم تلك المسألة من خلال توقير المعلمين والالتفات لوضعهم مثل الإعفاءات في أجور النقل والسكن والعلاج وغيرها..
أرى أن الباحث يمزج بين ما هو معنوي وما هو مادي. وقد تحل تلك الظروف نقابات حقيقية تربط أداء المعلم مع ما يليق به من حقوق.
وفي هذا المقام، لا بأس من ذكر قصة تناقلتها وسائل الإعلام عن التجربة اليابانية، وهي عندما احتار العالم في سرعة تقدم اليابان وأرادوا الاستفسار من اليابانيين عن ذلك، أجابهم اليابانيون: بأن وراء ذلك المعلم، فنحن نعطيه راتب الوزير وهيبة القاضي وسلطة الضابط .